إسرائيل تطرق أبواب 22 دولة أفريقية لحضها على استئناف العلاقات
مع انطلاق عملية «طوفان الكرامة» منذ أكثر من سنة، انتبه المخططون الإسرائيليون إلى ضرورة معاودة تنشيط العلاقات الدبلوماسية المُجمدة مع قرابة 22 دولة أفريقية. وبالرغم من المجازر المُرتكبة يوميا في غزة ولبنان، أرسلت إسرائيل وفودا إلى تلك الدول الأفريقية، سعيا لإعادة بناء الجسور مع القارة السمراء. وسلمت تلك الوفود، مسؤولين في العواصم التي زارتها، دعوات للمشاركة في «القمة البرلمانية الإسرائيلية الأفريقية» التي التأمت في الشهر الماضي، بمشاركة وفود من 22 دولة، بما فيها دول عربية.
وعلى خلاف الموقف العربي بعد حرب تشرين الأول/اكتوبر 1973 العربية الإسرائيلية الذي دفع نحو غلق غالبية السفارات الإسرائيلية في أفريقيا، حافظت اليوم، غالبية الدول، بما فيها العربية، على مستوى علاقاتها مع الدولة العبرية، أسوة بالإمارات والبحرين والمغرب ومصر والأردن وعُمان. والواضح أن الإسرائيليين فكروا في رفع الحرج عن بعض المدعوين الأفارقة والعرب، فاختاروا ألا تُعقد «القمة البرلمانية» في القدس المحتلة، وإنما في بلد محايد مثل أثيوبيا، التي تحتضن مقر منظمة الاتحاد الأفريقي.
هبوط سريع
وعزا الكاتب الصحافي الفرنسي نوئي بودان هذه المبادرة الإسرائيلية إلى الهبوط السريع لسمعة الدولة العبرية في العالم، وخاصة في عدد من البلدان الأفريقية. وهي ساعية، بسبب ذلك، إلى تحسين صورتها وإيجاد تعويض عن تلطُخ سمعتها لدى الأفارقة بدماء الفلسطينيين واللبنانيين. ومن بين «التعويضات» بيع تجهيزات عسكرية وأسلحة ومعدات زراعية متطورة للعديد من البلدان الأفريقية.
والأرجح أن الإسرائيليين واجهوا صعوبات مع الأربعين مشاركا أفريقيا في القمة البرلمانية، لأن الأفريقيين حاولوا المحافظة على مسافة معقولة إزاء خطط الدولة العبرية، فرد الإسرائيليون بأن المؤتمر «ليس سوى لقاء تشاوري بين الجانبين». بمعنى أنه لقاء غير رسمي ولا يُصدر قرارات. كما زعموا أن الجهة الداعية للمؤتمر هي ثلاث جمعيات يهودية صغيرة، وليست الدولة العبرية، فمن أين أتت إذن منظمات صغيرة بالتمويل اللازم لإقامة مؤتمر بهذا الحجم؟
من المهم التذكير في هذا المضمار، بسعي تل أبيب المحموم للحصول على مقعد عضو مراقب في «الاتحاد الأفريقي» أسوة بفلسطين التي حصلت على هذا المقعد منذ العام 2003. وفي هذا الإطار زار بنيامين نتنياهو ثلاث دول أفريقية، عام 2016 وكان أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور القارة الأفريقية منذ خمسة عقود. وشملت زياراته في شرق أفريقيا كلا من كينيا وإثيوبيا وأوغندا. وسبقه بأعوام وزير خارجيته السابق أفيغدور ليبرمان، الذي زار البلدان الثلاثة قبله.
كما يعتبر نتنياهو أول زعيم غير أفريقي يشارك في قمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «إيكواس» عام 2017. وعملت تل أبيب على افتتاح سفارات جديدة في بلدان مثل رواندا وغانا. واستثمرت أيضا في تطبيع العلاقات مع دول أفريقية أخرى، مثل غينيا وتشاد والسودان.
مشاريع إسرائيلية في أفريقيا
مع ذلك يعتقد الكاتب الفرنسي نوئي بودان أن الجهود الكبرى، التي بذلتها الدولة العبرية لكي تحظى بالقبول والادماج في المنطقة، تعثرت بسبب العدوان على غزة ولبنان.
ومن الواضح أن الوفود المشاركة في القمة البرلمانية الأفريقية /الإسرائيلية واجهت الكثير من الاحراجات من مُضيفيها، ما جعل الأخيرين يشتكون من التغطية الإعلامية الباهتة للمؤتمر. والمؤكد أن إسرائيل، التي تكسرت صورتها على صخرة المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، باتت معزولة اليوم، ولا ينفعها إقامة مؤتمر أو عشرة مؤتمرات لتحسين صورتها، فقد أدان المفوض الأعلى للاتحاد الأفريقي موسى فقيه، يوم 17 تشرين الأول/اكتوبر الماضي جرائم الحرب الإسرائيلية إدانة لا غبار عليها، بصفتها مذابح جماعية.
صفعة من الاتحاد الأفريقي
الطريف أن إسرائيل سبق أن طلبت الانضمام إلى «الاتحاد الأفريقي» بصفة عضو مراقب، منذ 2021 غير أن الرد تمثل بطرد أعضاء وفدها من قاعة المؤتمر، ومنعهم من حضور جلسات القمة الأفريقية في شباط/فبراير من العام الماضي. وأفيد أن الجزائر وأفريقيا الجنوبية كانتا تقفان خلف هذا الموقف الصارم.
في المقابل لعب الملك الحسن الثاني دورا محوريا في عودة إسرائيل إلى المشهد الأفريقي، ليس فقط بعد اتفاق أوسلو، وإنما أيضا قبل ذلك وفي عدة ملفات دقيقة. تكفي الإشارة ههنا إلى أن العاهل المغربي فتح قنوات حوار سرية مع «الموساد» بعد أربعة أشهر من توليه السلطة في بواكير الستينات من القرن العشرين. وتوصل الجانبان إلى اتفاق سري يقضي بتهجير مئة ألف يهودي مغربي إلى فلسطين، ولم يبق في البلد حاليا سوى حوالي ثلاثة آلاف يهودي. وكان المال هو العامل الرئيسي في المفاوضات، التي باشر إثرها «الموساد» تركيز شبكة من العملاء داخل المغرب. بهذه الخلفية دعمت إسرائيل الملك ضد الجزائر، في ما بات يُعرف بـ«حرب الرمال» (1963) بين الجزائر والمغرب، كما قدمت له أسلحة وعتادا عسكريا ما عزز نفوذها داخل القصر.
وتؤكد مصادر متطابقة أن الاتفاق بين الجانبين تضمن أيضا التعاون بين جهازي الاستخبارات على تعقب المعارضين المغاربة في الخارج ومطاردتهم من أجل إلقاء القبض عليهم. وفي مقدم هؤلاء زعيم الاتحاد الوطني للقوى الشعبية المعارض مهدي بن بركة، الذي حُكم بالإعدام وتعرض للإختطاف في باريس، ولم يُعثر له على أثر بعد عملية الخطف. وأماط وثائقيٌ لـ«نتفليكس» اللثام عن تطور العلاقات الإسرائيلية المغربية من خلال لقاءات متكررة، أثمرت علاقة متينة بين الرباط وتل أبيب. كما أن بعض المصادر يؤكد أن إسرائيل ساعدت الملك الحسن الثاني على إحباط الانقلاب الذي قاده ضباط سامون في الجيش المغربي صيف 1971 وأيضا المحاولة الانقلابية الثانية، التي قادها في العام التالي، وزير الداخلية والدفاع الجنرال محمد أوفقير. وقد نجا الملك منهما بأعجوبة. غير أن مصادر مغربية تنفي أي دور لأطراف خارجية في إحباط المحاولتين الانقلابيتين.
عرفات ورابين
هناك شبهٌ كبيرٌ بين المرحلة الحالية وفترة التسعينات، إذ حث الإسرائيليون الخطى لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأفريقية، بعد توقيع الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين على اتفاق أوسلو، في حديقة البيت الأبيض في تشرين الأول/أكتوبر العام 1994. بيد أن الحراك الشعبي كان مُعبرا، بصوت الشارع، عن رفضه اتفاق أوسلو. ولم يقتصر الرفض على الكيانات السياسية والنقابية، وإنما شمل قطاعات واسعة من النخبة المغربية.
ازدواجية المواقف
وعلى الرغم من كثافة الحركات الشعبية التي ملأت الشارع المغربي في الشهور الأخيرة، تعبيرا عن التضامن مع فلسطين ولبنان، وخاصة المسيرة التاريخية الموحدة بالعاصمة الرباط، أبقت السلطات على قنوات الحوار والتواصل مفتوحة مع الدولة العبرية، بدعوى الدفاع عن حقوق الفلسطينيين. ولم تستجب لطلب مئات الآلاف من المتظاهرين بإقفال السفارة المغربية في تل أبيب. أكثر من ذلك، أُرسل إلى مكتب مجلس النواب مشروع قانون يمنح الجنسية المغربية، بصفة آلية لأبناء وأحفاد اليهود المهاجرين من المغرب. وبدت الرسالة، التي بعث بها شخص غير معروف، بمثابة تمهيد للنظر في هكذا اقتراح. وفي السياق لابد من التذكير بأن الحكومة المغربية سبق أن راجعت المقررات المدرسية بُغية تعليم التلاميذ في الصف الابتدائي تراث اليهود المغاربة ولغتهم وعاداتهم.
أبواب مقفلة
مع ذلك، لا يمكن اعتبار استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل منذ العام 2020 مكسبا كبيرا للدولة العبرية، فقد لفظ المجتمع المغربي بجميع فئاته مسار التطبيع. ومن الدلائل على ذلك أن الحضور في الحفل الذي أقيم في المغرب، بمناسبة الذكرى الثالثة للتوقيع على اتفاق التطبيع، اقتصر على لقاء مُضيق بين رجال أعمال ودبلوماسيين ومسؤولين حكوميين من الجانبين، خلف أبواب مقفلة.
هذا لا يعني أن الإسرائيليين لم يحصدوا مكاسب من تطبيع علاقاتهم مع الرباط، فقد أقدمت الدول القريبة سياسيا من المغرب على اقتفاء خطاه إما بإقامة علاقات جديدة، مثل حال بوروندي وتشاد والصومال، أو إحياء لعلاقات قديمة. وتزامن ذلك مع التوقيع على اتفاق كبير بين إسرائيل وزامبيا لإنشاء محطة قادرة على توليد 17 ميغاواتا من الكهرباء عبر طاقة الرياح، في أكبر استثمار من نوعه في زامبيا بقيمة 100 مليون دولار. ويمكن اعتبار قرار الرئيس التشادي محمود دبي إتنو بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، سيرا على خطى الدول التي اقتدت بالنموذج المغربي.
السودان بعد تشاد
ومن غير المستبعد أن يحذو السودان حذو تشاد، بعد زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي السابق إيلي كوهين الخرطوم. كما فتحت الدولة العبرية قناة للحوار مع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، في أعقاب اجتماع عقده معه كوهين، عندما كان وزيرا للخارجية. وفي هذا السياق فتحت إسرائيل أربع سفارات جديدة شملت كلا من غينيا وتشاد والمغرب والسودان. والمؤكد أن المصالح الاقتصادية شكلت وما زالت عنصرا رئيسا في اتجاه البوصلة الإسرائيلية نحو أفريقيا، باعتبارها قارة تضم العديد من المُحفزات الطبيعية على الاستثمار، بالأضافة إلى أنها تشتمل على اقتصادات ناشئة تتميز بسرعة النمو مثل نيجيريا وكينيا وأفريقيا الجنوبية.
في هذا الإطار استثمرت إسرائيل التقدم التكنولوجي، الذي حققته في بعض المجالات مثل تطوير الزراعة الحديثة والطاقة الخضراء والتقنيات العالية، مفتاحا للولوج إلى الاقتصادات الأفريقية. وتتجلى مراهنة الإسرائيليين على هذه الميزات النسبية، من خلال التوصل إلى اتفاقات مهمة مع مجموعات إسرائيلية، من بينها شركة «إنيرجيا غلوبل» التي تعهدت باستثمار ما يصل إلى 1 مليار دولار خلال السنوات المقبلة لتطوير مشاريع الطاقة الخضراء في 15 دولة أفريقية. ثم افتتحت شركة «غيغاوات غلوبل» ومقرها إسرائيل، أول محطة للطاقة الشمسية في بوروندي، بما زاد من قدرة التوليد بنسبة 10 في المئة. ولم تلبث الشركة أن أعلنت، بعد وقت غير طويل، عن مضاعفة حجم المشروع.
أغراض أخرى
وعلى الرغم من أهمية البعد الاقتصادي في مخططات الدولة العبرية، وسعيها لمنافسة البلدان الغربية الحاضرة في المشهد الأفريقي، فإن لدى تل أبيب أغراضا أخرى تتصل بالهزات السياسية التي عرفها العالم العربي في العقد الماضي، واتجاهها إلى استثمار تلك التحولات من أجل هدم الحواجز القائمة بينها وبين بلدان القارة الأفريقية، وهو ما نجحت فيه إلى حد بعيد.
من المهم الاشارة في هذا الإطار إلى الخطاب الذي ألقاه نتينياهو في اجتماع عقده قادة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «إيكواس» في حزيران/يونيو 2017 والذي أكد فيه أن إسرائيل ماضية في بناء جسور عديدة مع القارة الأفريقية، إن كان على الصعيد الثنائي أم على صعيد المؤسسات الإقليمية، وأساسا في المجالين الأمني والاقتصادي. ولم يكن واردا في أذهان الأفارقة، قبل ذلك الاجتماع، أن يستقبلوا رئيس الدولة التي قطعوا معها جسور التواصل السياسي والدبلوماسي، وأن يسمحوا له بإلقاء ذلك الخطاب التسويقي، الذي هو جديرٌ برئيس شركة صناعية. وتُطرح هنا أسئلة عديدة، فدول مجموعة الساحل والصحراء، المؤيدة عموما للحقوق الفلسطينية، غارقة اليوم في حروب داخلية لا تسمح لها بامتصاص النفوذ الإسرائيلي المتنامي في بلدانها والمنطقة عموما.
أوراق القذافي
كما خسر العرب برحيل الزعيم الليبي معمر القذافي أوراق ضغط مهمة للتأثير في قرارات الدول الأفريقية، بما في ذلك قدرته على إفساد تطبيع علاقاتها مع الدولة العبرية. ويعزو أنصاره، أحد الأسباب الرئيسية لقصف الحلف الأطلسي مقر إقامته في العزيزية، ثم ملاحقته إلى ضواحي سرت، حيث قُتل، إلى رفضه التطبيع مع الدولة العبرية. وقد حاولت الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، دفعه إلى هذا الطريق بواسطة رئيس «اتحاد يهود ليبيا» في إيطاليا رفائيل لوزون، الذي زار ليبيا مرات كثيرة، تلبية لدعوات من القذافي. وأعطت تلك الاستراتيجيا أُكلها، في مرحلة من المراحل، إذ تكررت لقاءات لوزون مع شخصيات من أوساط عديدة داخل ليبيا وخارجها، وأشهرها اجتماع نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، مع نظيرها الإسرائيلي. وأثار الاجتماع ردود فعل قوية وعنيفة داخل ليبيا وخارجها، ما أدى إلى عزل الوزيرة ومغادرتها البلد. أما اليوم فإن أوراق الملف باتت مبعثرة، لا بل وخاضعة لمساومات مالية، خصوصا مع الضباط الجدد، الحاكمين في غالبية دول منطقة الساحل والصحراء.
حراس إسرائيليون
بالمقابل هناك ورقة ضغط من نوع خاص بيد إسرائيل، تتمثل في انتداب بعض الأنظمة الأفريقية حراسا شخصيين للرؤساء من إسرائيل، لأن هؤلاء الحكام، الذين أتى أكثرهم على ظهر دبابة، لم يعودوا واثقين من إخلاص أبناء البلد، خاصة مع تعدد وتواتر المحاولات الانقلابية ضدهم، فاستقدموا عناصر أمنية من إسرائيل. وما من شك بأن الإسرائيليين، الذين باتوا على مسافة الصفر من دوائر القرار في البلدان التي يعملون فيها، سيُفيدون بلدهم، بشكل أو بآخر، من وجودهم في هذا الموقع الحساس.
مع ذلك يرى بعض الخبراء في الشؤون الأفريقية أن النجاح النسبي الذي حققته إسرائيل في ترميم علاقاتها مع عدد من البلدان الأفريقية، أغرقه «طوفان الأقصى» وذلك بالرغم من ضعف التأثير العربي في دول القارة، إلى جانب غياب رؤية عربية لمستقبل الصراعات القائمة، وللدور الذي يمكن أن تلعبه في امتصاص الاختراقات الإسرائيلية، وإن جزئيا. والجهة الأولى المسؤولة عن بلورة مثل تلك الرؤية هي طبعا جامعة الدول العربية، لكنها ما زالت تغط في نوم عميق.
التعليقات
اضافة تعليق